صور من الشرك الاصغر يجب الحذر منها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ
فجماعة أنصار السنة منذ نشأتها الأولى على يد رعيلها الأول، وعلى مدار تاريخها المبارك، وهي تحرص أول ما تحرص على دعوة الناس إلى توحيد الله عز وجل، الذي هو أصل الدين وأساسه، والتحذير من الشرك وصوره وخطره على سلامة المعتقد
ويأتي هذا المقال تأكيدًا لهذا الدور البنّاء، والذي نوضح فيه صورًا من الشرك الأصغر في الأقوال والأفعال، وذلك صيانة لجناب التوحيد حتى يظل منيع الجانب مصون الحمى، فنقول مستعينين بالله
تعريف الشرك الأصغر
هو كل ما كان فيه نوع شرك لكنه لم يصل إلى درجة الشرك الأكبر، أو هو كل قول أو عمل بالقلب أو الجوارح جعل العبد فيه نوع شرك لله تعالى ولم يصل إلى إخراج صاحبه من الملة، وقد أطلق بعض العلماء الشرك الأصغر على جميع المعاصي؛ لأن فيها اتباعًا للهوى، وتقديمًا على طاعة الله، مستدلين بقوله تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ الجاثية الفتاوى ، معارج القبول ، القول المفيد
وقد ذهب كثير من المفسرين، وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الآية السابقة في المشرك الذي يعبد ما تهواه نفسه من معبودات، فما استحسن من شيء عبَده انظر تفسير الطبري والقرطبي والشوكاني ومجموع الفتاوى وعلى ذلك؛ فإن المعاصي لا يدخل منها في الشرك الأصغر إلا ما كان فيه نوع إشراك لمخلوق آخر
حكمه
أما حكم الشرك الأصغر فهو كما يلي
أنه كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو أكبر الذنوب بعد الشرك الأكبر، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد رجل حلقة من صفر قال «ما هذه؟» قال من الواهنة قال «انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو متَ وهي عليك ما أفلحت أبدًا» رواه أحمد وابن حبان وسنده حسن
ويؤيده قول ابن مسعود رضي الله عنه «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا» فجعل الحلف بالله كاذبًا الذي هو من كبائر الذنوب أخف من الحلف بغيره صادقًا؛ لأنه من الشرك الأصغر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشرك الأصغر لا يُغفر إذا مات العبد ولم يتب منه، مستدلين بعموم قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ النساء ، وأُجيب عن هذا الاستدلال بأن الآيات التي تحدثت عن الشرك في كتاب الله تعالى والتي رتب فيها الحكم على وصف الشرك لم يختلف أهل العلم في أن المراد به الشرك الأكبر كما في قوله تعالى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ المائدة ، وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الزمر مدارج السالكين ، ، قرة العيون
أن هذا الشرك قد يعظم حتى يؤول بصاحبه إلى الشرك الأكبر المُخرِج من الملة، فصاحبه على خطر عظيم
أنه إذا صاحب العمل الصالح أبطل ثوابه، كما في الرياء وإرادة الإنسان الدنيا وحدها بعمله الصالح، يدلك على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» مسلم
صور من الشرك الأصغر
للشرك الأصغر صور كثيرة من أهمها
أولاً الشرك الأصغر في العبادات القولية
الحلف بغير الله
الحلف في اللغة مصدر حلف، يحلف، وهو الملازمة، لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، ويسمى اليمين؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه ويسمى أيضًا القسم
أما الحلف في الاصطلاح فهو توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى مُصدّرًا بحرف من حروف القسم
وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل والله، أو بالله، أو تالله، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر وابن حزم وابن قدامة وابن عبد البر، وأجمعوا على انعقاد اليمين إذا كانت باسم من أسماء الله تعالى التي لا يسمى بها سواه كـ «الله»، و«الرحمن»، كما ذكر ابن حجر رحمه الله أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته
واختلفوا فيما عدا ذلك مثل قول «لعمر الله»، والمراد به الحلف ببقاء الله تعالى وحياته، وقول «بحق الله»، وقول «على يمين الله»، وقول «علم الله» وقول «أيم الله»، وقيل إن «أيم» عوض عن واو القسم، وقيل إنها بمعنى «أحلف بالله»، كما اختلفوا في الحلف بفعل من أفعال الله
وأما ما ورد في الأحاديث مما ظاهره الحلف بغير الله كحديث «أفلح وأبيه إن صدق»، وحديث «أما وأبيك لتنبأنه»، فقد أجيب عنه بعدة أجوبة منها أن ذكر الحلف في الحديثين شاذ لم يثبت، كما بيَّن ذلك الحافظ ابن عبد البر وغيره، وعلى فرض ثبوته أجيب بأن ذلك كان جائزًا في أول الإسلام ثم نُسخ، وذلك هو الصواب، ويؤيده أن ذلك كان مستعملاً شائعًا ثم ورد النهي عن ذلك، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» رواه البخاري
اليمين عبادة
واليمين عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله، فيحرم الحلف بغيره تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت» متفق عليه فمن حلف بغير الله سواء أكان نبيًّا أم وليًّا أم الكعبة، أم الملائكة، أم الأمانة، أم روح فلان، أم تربة فلان، أم حياة فلان أو غير ذلك؛ فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ووقع في الشرك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «من حلف بغير الله فقد أشرك» رواه أبو داود وصححه الألباني
ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائنًا من كان؛ فقد جعله شريكًا لله عز وجل في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غيرُ، أما إنا كان الحالف قد قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثيرٌ من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياءً وأمواتًا، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجلّ وأعظم وأخوف من الله تعالى
قال الشيخ حامد الفقي وذلك لأن حقيقة اليمين والقصد منها إنما هو تأكيد حالف قوله بالقسم بالمحلوف به الذي يقدر أن ينتقم منه ويعاقبه إن كان كاذبًا، ولذلك ترى أكثر العامة يحلفون بالله كذبًا غير مبالين، فإذا استحلفوا بمن يعظمونه من الموتى والأولياء، ويعتقدون له السر والتصرف تكعكعوا وصدقوا، وإن كان في ذلك ذهاب بعض ما يحرصون عليه من منفعة، يقيمون بها خوفًا من عقاب وانتقام وتصرف ذلك الولي فيهم
قال النووي في روضة الطالبين قال الأصحاب يعني الشافعية فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كَفَر
الاستسقاء بالأنواء
الاستسقاء في اللغة من سقى، والمصدر سقيًا، بفتح السين وتسكين القاف، والاسم السُّقيا، والمراد إنزال الغيث
والسين والتاء في الاستسقاء تدل على الطلب، أي طلب السقيا، كالاستغفار فهو طلب المغفرة، فمادة «استفعل» تدل على الطلب غالبًا القول المفيد
والأنواء جمع نوء، وهو النجم، وفي السنة الشمسية ثمانية وعشرون نجمًا، كنجم الثريا، ونجم الدبران ومدة النجم يومًا، وهذه النجوم هي منازل القمر، وفي نهاية كل منزلة يغيب نجم من جهة المغرب، ويطلع نجم من جهة المشرق، وأصل النوء طلوع النجم، وقيل غروب النجم، ثم أطلق على نفس النجم التمهيد لابن عبد البر ، وشرح السنة
فالاستسقاء بالأنواء أن يُطلب من النجم أن يُنزل الغيث، ويدخل فيه أن يُنسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث
الاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين
القسم الأول أن ينسب المطر إلى النجم معتقدًا أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جلَّ وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع
القسم الثاني أن ينسب المطر إلى النوء معتقدًا أن الله جعل هذا النجم سببًا في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سببًا، فالله تعالى لم يجعل شيئًا من النجوم سببًا في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأيّ وجه، وإنما أجرى الله العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها
ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مُطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا هذه رحمة الله، وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا»، قال فنزلت هذه الآية فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الواقعة ، ومعنى الآية الأخيرة أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تكذبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى
ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فما انصرف أقبل على الناس فقال «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا الله ورسوله أعلم قال «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»
وهذا الحديث يشمل على الصحيح النوعين السابقين، فهذا القول كفر، لكن إن نسب الغيث إلى النجم من دون الله فهو كفر وشرك أكبر، وإن نسب إليه نسبة تسبب فهو كفر نعمة وشرك أصغر التمهيد ، شرح مسلم للنووي
ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعًا أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»
وإذا قال المسلم «مُطرنا بنوء كذا وكذا» ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم، على أن الباء تأتي للظرفية على معنى «في»، معتقدًا أنه ليس للنجم أدنى تأثير لا استقلالاً ولا تسببًا، فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ، فقيل هو محرم، وقيل مكروه، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول «مطرنا بفضل الله ورحمته»، فهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في الحديث القدسي، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول «هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا»، أو يقول «مطرنا في نوء كذا»، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول «مطرنا بنوء كذا» أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي
أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقًا بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفرًا بالله تعالى، وإيمانًا بالكوكب
أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يؤدي بجهلهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء
أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد
أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعًا في هذه الحال، وهو قول «مطرنا بفضل الله ورحمته» بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك السنة وتشبه بالمشركين، وقد نهينا عن التشبه بهم
هذا وهناك أمثلة أخرى كثيرة للشرك الأصغر منها
أ التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى؛ كملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوها، وقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله»
ب التسمي بأسماء فيها تعبيد لغير الله تعالى كعبد الرسول وعبد النبي وعبد الحسين، ولهذا غيّر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء من أسلم من الصحابة وكان اسمه معبدًا لغير الله تعالى
جـ سب الدهر، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه «يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»، فالله هو الفاعل حقيقة، فمن سب الدهر فقد سب الله، وسب الدهر يكون من الشرك الأصغر في حق من سب الدهر وهو يعتقد عدم تأثيره، فالشرك من أجل اللفظ الذي فيه نوع تشريك بين الله وبين الدهر في الفعل والتأثير، أما إن كان الساب للدهر يعتقد ما يعتقده أهل الجاهلية من تأثير الدهر وفعله من دون الله، كما قال الله تعالى وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ الجاثية فهو شرك أكبر انظر الأسماء والصفات للبيهقي، وزاد المعاد ، والشرك الأصغر
وللحديث بقية في العدد القادم إن شاء الله تعالى
والله من وراء القصد